التعليم فى مصر: حتى لا نؤسس لجيل يعيد إنتاج الأزمة


تعيش مصر منذ عقود أزمة تعليمية مركبة تتجدد مظاهرها وتتعمق نتائجها مع مرور الزمن، حتى بات من المألوف أن تتوارث الأجيال نفس مشكلات التعليم، من ضعف التحصيل، وتفشى الدروس الخصوصية، إلى انفصال المناهج عن الواقع، وتآكل قيمة المدرسة كمؤسسة تربوية.
وتكمن خطورة الأمر فى أن النظام التعليمى الحالى، فى صورته التقليدية، لم يعد فقط عاجزًا عن مواكبة تحديات العصر، بل يُسهم فى إنتاج أجيال تكرر نفس القصور والتحديات التى عانت منها الأجيال السابقة، والواقع ما زال يَشى بأننا نعيد إنتاج أزمة قديمة، جيلًا بعد جيل، بمسميات مختلفة ومناهج متبدلة ولكن بأزمة واحدة مُتجذّرة أركانها تعليم لا يصنع إنسانًا حرًا، مُفكرًا، مُستقلًا، وقادرًا على مواجهة العالم.
أحد أخطر مظاهر هذه الأزمة هو اختلال العلاقة بين التعليم وسوق العمل، وإذا نظرنا مثلًا إلى مُخرجات التعليم الجامعى، خاصة فى التخصصات النظرية، لا نجد صدى حقيقيًا يستوعب احتياجات الاقتصاد الوطنى، لذلك تتفاقم معدلات ونسب البطالة إلى أقصى مدى بين خريجى هذه التخصصات، وهذا يعكس- على سبيل المثال- أنه لا علاقة بين الجامعة وسوق العمل.
وتشير البيانات إلى أن بعض الكليات النظرية فى مصر تُخرّج سنويًا أعدادًا تفوق خريجى منظومة التعليم الفنى، وهو ما يؤشر نحو خلل واضح فى هيكل السياسات التعليمية، وبدلًا من أن يُعاد توجيه الموارد البشرية نحو التخصصات الفنية والمهنية التى تحتاجها سوق العمل، تستمر الجامعات فى ضخ أعداد كبيرة من الخريجين فى مجالات لا تجد طلبًا حقيقيًا، مما يؤدى إلى تراكم البطالة بين صفوف الشباب، وهذا الواقع يُعدّ إهدارًا لرأس المال البشرى وسوء استغلال له، ويكشف غياب الربط بين التعليم واحتياجات التنمية الاقتصادية، حيث لا تزال السياسات التعليمية تُدار بمعزل عن خطط سوق العمل، وهو ما يتطلب إعادة نظر شاملة فى منظومة التعليم الجامعى والتقنى على حد سواء.
إن جوهر الأزمة كما أشعرها ليست فى المناهج وحدها، ولا فى نقص الإمكانات فقط، ولا فى تهالك البنية التحتية لبعض المدارس، ولا فى تحويل الجامعات إلى مضخات للبطالة، لكن جوهر المشكلة يكمن فى فلسفة التعليم نفسها وما الغاية التى نُعلِّم من أجلها؟ هل نُريد طالبًا يحفظ ويجتاز الامتحان أم إنسانًا يصنع وعيه وينتج فكره؟ وهل نُريد خريجًا يحتاجه المجتمع أم نريد عضوًا جديدًا فى منظومة البطالة يُكرس لتعميق حدة الفقر ويصبح عِبئًا على مخططات التنمية والاقتصاد الوطنى؟
إن تحديد الدولة لفلسفة التعليم يُمثل حجر الأساس لأى منظومة تعليمية فعّالة، إذ إن الفهم الواعى للغاية من التعليم لا يقتصر على نقل المعرفة، بل يتجاوز ذلك ليشمل بناء الإنسان القادر على التفاعل مع واقعه المحلى والانخراط فى التحديات العالمية، وفلسفة التعليم ينبغى أن تُرسم من خلال رؤية استراتيجية واضحة تربط بين الهوية الوطنية ومتطلبات التنمية، بحيث تُنتج نظامًا تعليميًا يواكب التطورات العلمية والتكنولوجية من جهة، ويُلبّى فى الوقت ذاته احتياجات السوق المحلية من المهارات والكفاءات من جهة أخرى، ولا أتصور أن هناك فلسفة واضحة للتعليم فى مصر، وأرى أن بناءها يتطلب حوارًا مجتمعيًا واسعًا وتكاملًا بين مؤسسات الدولة والقطاع الخاص والخبراء، بما يضمن تأسيس تعليم مرن ومُتجدد، قادر على إحداث التوازن بين الانفتاح على العالم والحفاظ على خصوصية الوطن واحتياجاته الفعلية.
وما يدفعنى إلى هذا الادعاء، أن خصائص النظام التعليمى الحالى فى مصر تبدو متباينة أو غير متكاملة ولا تعكس وجود معايير ومؤشرات واضحة للتنسيق والتخطيط والتنفيذ، فهناك على سبيل المثال فجوة واضحة بين التعليم الأزهرى والتعليم العام، وأيضًا يوجد تعليم «مجانى» ذو جودة متدنية، جنبًا إلى جنب مع التوجهات الداعمة والداعية لخصخصة التعليم، وفى الوقت الذى يُؤكد فيه نائب رئيس الوزراء للتنمية المستدامة ووزير الصحة والسكان الدكتور خالد عبدالغفار «وهو بالمناسبة وزير التعليم العالى السابق» أن عدد الصيادلة المسجلين فى نقابة الصيادلة يمثل 4 أضعاف المعدلات العالمية وبالتالى لا يوجد عجز فى الصيادلة، نجد أن الحكومة ممثلة فى وزارة التعليم العالى توافق على إنشاء كليات صيدلة جديدة، ثم نجد أيضًا أنه وفقًا لطلب إحاطة مقدم من أحد النواب فى عام 2023 فإن خريجى كليات الصيدلة فى 6 جامعات مصرية غير معترف بهم فى دول عربية وإفريقية... فهل هذا يعكس أن هناك فلسفة مفهومة وحقيقية للتعليم فى مصر؟
إذن كيف نبنى هذه الفلسفة ومن أين نبدأ؟
لبناء فلسفة تعليمية فاعلة فى مصر، لا بد أولًا من الانطلاق من فهم عميق للهوية الوطنية، ومعطيات الواقع الاقتصادى والاجتماعى، والاتجاهات العالمية فى التعليم، بحيث تقوم الفلسفة التعليمية الجديدة على رؤية شاملة تُحدّد بوضوح: من هو المواطن الذى نُريد؟ وما المهارات والقيم التى يجب أن يتحلى بها؟ ويستلزم ذلك أن تُبنى السياسات التعليمية على دراسات ميدانية دقيقة لسوق العمل، وتحليل للفجوات المهارية، مع الاستفادة من التجارب الدولية الناجحة دون نسخها، كما يجب أن تشارك فى صياغة هذه الفلسفة جميع الأطراف المعنية مثل الدولة، والمؤسسات الأكاديمية، والقطاع الخاص، ومنظمات المجتمع المدنى، بما يضمن تكامل الرؤى ووضوح الأهداف، حتى تتحول إدارة التعليم فى مصر من مجرد تمرين نظرى إلى مشروع نهضوى متكامل وتطبيق عملى قائم على فلسفة تعليمية وطنية تربط بين التعليم والتنمية المستدامة وتُعيد فى البداية تشكيل العلاقة بين المدرسة والمجتمع، وبين الخريج والاقتصاد فى إطار من العدالة والابتكار والانتماء.
ومن الإشكاليات الكبرى الأخرى التى يعانى منها التعليم فى مصر، أنه رغم الجهود المتكررة لإصلاح نظام التعليم، فإن هذا الإصلاح ما هو إلا نتاج عمليات غير متسقة لنقل السياسات التعليمية، فمنذ عقود طويلة سابقة فى تاريخ الحكومات المصرية، كانت كل استراتيجية تعليمية جديدة تسعى لإلغاء ما سبقها دون معالجة الخصائص المتأصلة التى تعوق تطور منظومة التعليم وجودته، وهذا يتضح من استعراض المحطات الرئيسية لتاريخ محاولات تطوير النظام التعليمى المصرى خلال القرنين الماضيين، عندما وصل محمد على باشا إلى السلطة، سعى لإصلاح وتجديد نظام التعليم فى مصر من خلال إدخال نظام قائم على النموذج الفرنسى، ولكن هذا النظام خلق انقسامًا حادًا بين نظم التعليم فى المدارس الحديثة والمؤسسات التعليمية الدينية التقليدية، ومع حكم الخديو إسماعيل، تعمقت الفجوة، حيث أصبحت هناك ثلاثة أنواع من المدارس موجودة جنبًا إلى جنب داخل المجتمع المصرى، وهى المدارس الأجنبية للأجانب والنخبة المصرية، والمدارس الحديثة فى المناطق الحضرية، والكتاتيب للأطفال المصريين الفقراء.
وفى عهد الخديو عباس الأول، حاول على مبارك- وزير التعليم آنذاك- أن ينشر التعليم فى القرى والمدن الصغيرة، لكن هذه المحاولة شهدت أيضًا العديد من الانقسامات حول نظام التعليم، ففى المدن الرئيسية، كان يتم تقديم مناهج حديثة ولغات أجنبية، أما فى القرى فقد اقتصر التعليم على تقديم المواد الابتدائية الأساسية فقط، وهو ما خلق نظامًا مزدوجًا للتعليم فى مصر، وربط بين جودة التعليم والطبقية، وهذا بالطبع رسخ مع غياب الفلسفة التعليمية طوال العقود التالية وحتى وقتنا هذا لأن يتخرج فى الجامعة المصرية فى نهاية مسار التعليم خريج يَعلم وخريج لا يَعلم، مع ملاحظة أن الاثنين من مواطنى مصر المطلوب منهم المشاركة فى برامج التنمية الاقتصادية والمجتمعية.
وعندما استعمر البريطانيون مصر فى عام 1882، عمدوا على مواجهة آثار النفوذ الفرنسى البارز فى سياسات التعليم فى ذلك الوقت، كما قاموا بقمع الحركة الوطنية المصرية الداعمة لإصلاح التعليم وإفساد جميع المحاولات الجادة والوطنية لنشر وتحسين التعليم فى مصر، وعاد التعليم الجيد مرة أخرى مقتصرًا على الأجانب والنخبة فقط من المصريين.
فى أعقاب ثورة 23 يوليو عام 1952، أعلن جمال عبدالناصر أن التعليم المجانى حق لكل طفل، وقامت الحكومة بتوحيد نظام المدارس الابتدائية والمناهج الدراسية فى محاولة لبناء نظام تعليم وطنى يحقق المساواة الكاملة فى حق التعلم ومدخلات ومخرجات العملية التعليمية، وبالتالى المساواة أمام فرص العمل بعد التخرج، إلا أن هذه المحاولة لم تنجح فى إتاحة تعليم يتوافق مع المعايير، بسبب محدودية ميزانية التعليم فى ذلك الوقت، والتى لم تغط تكلفة الإصلاحات التعليمية المطلوبة والمحافظة على تحقيق فلسفة تعليمية ثابتة وواضحة، حيث كانت مصر تعانى فى هذه الفترة من حصار اقتصادى من الغرب والولايات المتحدة الأمريكية، وأيضًا فى ظل زيادة النفقات العسكرية الهائلة بسبب الحروب والمواجهات التى تعرضت لها مصر بعد ثورة 1952، وصحيح أن التعليم انتشر فى كل ربوع وأنحاء مصر، لكن دون تحقيق الجودة المطلوبة، وهى التراكمات التى ما زلنا نعانى منها حتى وقتنا الحالى.
الخلاصة، أنه لا بد أن يكون هناك دور مطلوب من التعليم حتى يمكن أن يدفع بالمواطن المصرى للحاق بركب التطور والمنافسة فى السباق العالمى، وهذا بالطبع لا يحققه عدم وجود فلسفة للتعليم أو بناء فلسفة ضعيفة على اعتبارات تقليدية مفادها فقط أن هناك مواد ولغات ومفاهيم يجب للطالب أن يتعلمها فى مراحل التعليم المختلفة، ثم فى النهاية لا يُستكمل الربط المفروض بين ما تتضمنه وبين الواقع التطبيقى وسوق العمل، ويتم اختزال العملية التعليمية فى سباق محموم نحو الدرجات والمجموع، ويُصبح العقل مجرد مخزن، لا أداة تحليل ولا وسيلة إبداع. وهنا تحديدًا تبدأ الكارثة من خلال خلق جيل يعتقد أن النجاح هو فى الإجابة النموذجية، وليس فى طرح السؤال الذكى!
إن أخطر ما قد نرتكبه بحق هذا الوطن هو أن نُجهز على فرص أجياله القادمة فى النهوض، عبر تعليم يكرّس التخلف ويعادى التفكير، وما نزرعه اليوم فى مقاعد الدراسة، سنحصده غدًا فى الشارع، والمؤسسة، والدولة، فلنحذر أن نُؤسس لجيلٍ يعيد إنتاج الأزمة، بيديه وعقله، وهو لا يدرى!